إن من الأمور التى ينبغي أن نصحح الفهم فيها قولة كثير من الناس عندما يتكلم عن الجهاد ويسرد وقائع المعارك التى حصلت يردفون كلامهم بقولة غيرت مجرى التاريخ وينسون أو يتناسوا أن هناك أشياء كثيرة لها دور في تغيير مجرى التاريخ مثل التجارة والتربية والإبتكار .
فحقيقة المال في الدعوة إلى الله مقصد ؛ لأنه به تكسب قلوب الناس فيكونون قوة للإسلام .
ونبرز صوراً وعبر من حياة بعض المتقدمين من سلف هذه الأمة ونبدأ.
بخديجة أول تاجرة خدمت الإسلام بمالها ولهذا قال عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :”وواستني بمالها ” ، يثني على خديجة وفاءً لها .
فالمال محبوب وهذه حقيقة ، وكما قيل نعم المال الصالح للرجل الصالح ، فالدين لا يقوم إلا على المال وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ما نفعني مال أفضل من مال أبي بكر -رضي الله عنه-.
عرف هذه الحقيقة عبد الله بن المبارك فكان من أفضل التجار وكان يحج سنة ويجاهد سنة وينفق على طلبة العلم ، سئل مرة فقالوا له : أنت تاجر في البحر فقال أتاجر في البر والبحر فينبغي على أهل الاسلام أن يكونوا أغنياء وأن يكونوا أقوياء فالمؤمن القوي خير و أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
ومن المؤسف أن كثيرا ممن يدعي الالتزام يكون فقيراً ويسمي هذا زهداً في الدنيا ألا يعلم المسكين أن هذا مسلك العجزة ، وكذلك هو مسلك الكسالى ؟ ، وكم كان الرسول الكريم -صلوات الله عليه -يتعوذ من العجز والكسل فنعوذ بالله من العجز والكسل.
وحقيقة الزهد في الدنيا لا كما يتحجج بها هذا المسكين لأن الزهد هو ترك مالا ينفع في الاخرة ، أما المال فنفعه في الدنيا والآخرة والله الموفق.
وإليكم سيرة تاجرنا علي بن أمحمد بن نصرات
ولد -رحمه الله- في قرية المصارتة في سنة (١٩٣٥م ) تأسر والده وعمره ثلاث سنوات ، وألقت به المحن في طيات المنح لأن في طيات المحن تكمن المنح ، فعندما بلغ السن والغاية التي تجعله يحمل هم أمه شمر على ساعد الجد يحمل الثقة بين جنباته ، أطلق سراح والده وعمره عشر سنوات كان يذهب معه إلى قطيس حتى يمارس مع أبيه مهنة الفلاحة ؛ لأنه كان لا يحسن غيرها وعندما علم أن هذا الامر لايخرجهم من مقاسات الفقر والجوع قرر أن يذهب إلى النجيلة حسب وصفه الجفاره لكي يحصد السبط وهو ما يعرف بالديس ، بقي على هذا الحال حتى بلغ عمره (١٢ سنة) قرر أن يذهب مع خاله إلى طرابلس لكي يشتغل مع خاله في محجر للبلوك ، وكان في جنزور ، فتـأمل معي طفل في هذه السن وهو يعاني مرارة العناء بل والأشق من ذلك أنه طرد لأنه طفل لا يقوى على هذا الشغل ، ولم يثنه ذاك بل عزم على أن يشق طريقه نحو الخلاص من الفقر والمعاناة وكأن لسان حاله يقول :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
لقد هانت عليه كل المحن فعزم على أن يشق طريقه جاعلا الصبر سبيله ومن استعان بالله أعانه فاقتضت حكمة الله أن يجمعه برفقاء من مدينة الزاوية في مصنع لتصدير الكاكاوية ، يملك هذا المصنع اقطاعي ايطالي، واشتغل فيه (٥ سنوات) وتنقل بعدها إلى عدة أماكن وهو يحذوه الأمل أن يكون رقماً ويستطيع أن يغير مجرى التاريخ وفعلاً بخطوات ثابتة وعقل راجح وحكمة وقيادة استطاع أن يوفر مالا ، فتاقت نفسه أن يكون تاجرا ففي سنة (١٩٥٠) بدأ بتجارة بسيطة تتمثل في الخرداوات ، وكأن لسان حاله يقول : دلوني على سوق المدينة ، فباع وبارك الله له في بيعه فأصبح يتنقل في سلم التجارة حتى أنه اشترى كارطون يبيع عليه سلعته وبعدها استأجر كوخا في الباب الجديد في المدينة القديمة ثم شارك ابن عمه مصطفى بن سالم في تجارة الملابس الجاهزة وبقيا حتى سنة (١٩٧٣م) ثم انفصل كل منهما على حاله وآثر تاجرنا أن يمتهن مهنة الأقمشة فعلت همته حتى أنه أصبح يشار إليه بالبنان أنه من التجار الكبار يسافر إلى المصانع الكبيرة ويستورد الاقمشة من اليابان والهند وكوريا وإيطاليا وتايوان وباكستان ، وكوَّن علاقات تجارية واسعة النطاق، فليت شعري كيف كان وكيف أصبح ذاك الطفل !،وياليت شعري من يستفيد من خبرة هؤلاء الذين حققوا بطولات في محراب الحياة بل عبَّدوا الطريق لمن جاء بعدهم من أبناءهم وأبناء بلدهم ؛ لأنهم كما قلت في المقدمة غيروا مجرى التاريخ في خدمة بلدهم بل وفوق هذا كله عرفوا شرعية التجارة ، فكانوا يسافرون ويأتون بأفضل شي و من كل شي وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على اخلاصهم في تجارتهم و إرادة الخير والنفع لأهلهم ، ولك أن تقارن بين تجارة أبناءنا الآن وبين تجارتهم فحياهم الله وطيَّب ثراهم ،وما إن كبرت تجارته حتى طالته أيدي الظالمين وسموا تجارته بأسماء ما أنزل الله به من سلطان حتى سوغوا للسفهاء أنهم يستغلونهم وأنهم برجوازيه ، وهكذا هي سنة الطواغيت عندما يريدون أن يسوقوا لباطلهم ، يرمون الأبرياء بأسماء حتى تنفر منهم العامَّة كما قيل في الرسول -صلى الله عليه وسلم -أنه ساحر كذاب ويلقبونه بالصادق الامين ، كذلك معشرنا يعرفون أن هؤلاء لهم أيادٍ بيضاء ولم يسرقوا درهما ولا دينارا لكن بعضهم صدق كذب الكاذبين وصدق الله حيث قال :”فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين” ، وهكذا عُبث بماله ولكن لا يهم ؛ لانه عند الله ستجتمع الخصوم ، كما قيل :
إلى ديان يوم الحشر نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم ياجهول إذا التقينا
غدا عند الإله من الملوم
وكما قال رسول الله وهو يسأل أصحابه من المفلس يوم القيامة ؟ قالوا من ليس لديه درهم ولا دينار ، قال بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وشتم هذا وسرق مال هذا ، فيأخذ من حسناته وتعطى له ، حتى إذا فنيت حسناته أخذت من سيئاته فوضعت عليه ثم كب في النار” .
ومن الجدير بالذكر هنا شهادة شاهدتها و أنا شاب فكنت أتأخر في الرجوع إلى البيت فكنت أمر على عمي علي وأسرته وهم يرمون بالبضاعة في الغار لكي يحمونها من أيد السارقين والناهبين الذين يريدون أخذ البضاعة ،فكنت أشاهدهم كيف يحولونها ولا أجعلهم يرونني حتى لا يحصل لهم قلق ، ويشهد الله على ذلك و ما أخبرت بهذا الأمر أحد ؛ لأني أعلم علم اليقين أنهم على الحق وهذا مال جمع بالكد والتعب والشقاء فلابد أن يحمى ، لكن طالتهم يد الوشاية والشماتة فعرفوا بأمرهم فجاءوا بقضهم وقضيضهم واستخرجوا البضاعة وسرقوها ونسأل الله أن يعوضه خيراً هو وأهله ، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(ملاحظة)
مصدر المعلومات نقل عن أبناءه